فتاوى فوركس

حكم التداول في الفوركس.. أراء أهم العلماء ودور الإفتاء في الدول الإسلامية.


إن التطور الدائم هو سنة الحياة، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، لذا كان من الطبيعي أن تتطور الاستخدامات البشرية لشبكة الإنترنت، خصوصا مع اتساع تلك الشبكة، ودخولها إلي كل دول العالم تقريبا، وتبع ذلك أن دخلت إليها أحد أقدم الأنشطة الإنسانية وهي "التجارة"، ليظهر لنا ما يعرف اليوم باسم "التجارة الإلكترونية".


ثم تنوعت صور التجارة الإلكترونية واختلفت، وظهر منها العديد من الأنواع والأشكال والأنظمة، ومنها النظام الذي يدور حوله حديثنا اليوم، وهو نظام "الفوركس" Forex .. والذي نجح في أن يجذب إليه اهتمام وأنظار الكثيرين من الناس، وجذب إليه بالضرورة أيضا السؤال عن "الحكم الشرعي في التعامل بالفوركس Forex ".. إذ حرص الكثيرون على التأكد من كون المال الذي يكسبونه من وراءه، يأتي من مصدر حلال شرعا.


وقد حرصت "المعرفة للدراسات" على أن تجمع في الإجابة على هذا السؤال عددا كافيا من المصادر الشرعية والفقهية و أراء العلماء ودور الإفتاء المعتبرة، لكي يطمأن القارئ الكريم أن الرأي الذي انتهينا إليه هو الرأي الشرعي الصحيح، الذي يوافق أحكام الدين الذي أنزله الله -عز وجل- على نبيه المصطفي صلى الله عليه وسلم، ولينتهي بقراءة تقريرنا هذا بحثه في هذه المسألة بشكل تام ومرضى، لكننا رأينا أولا أن نبدأ الأمر بتوضيح بسيط للفوركس Forex نفسه.


الفوركس Forex :


الفوركس Forex هو اختصار لمصطلح Foreign Exchange Market ، ويعني باللغة العربية "سوق تداول العملات الأجنبية"، وهو أحد أكبر الأسواق المالية في العالم، إذ يصل حجم التبادل فيه إلي ما يتراوح بين (5 : 6 تريليون دولار) يوميا.


في هذا السوق، يتم تحويل عملة دولة ما إلي عملة دولة أخرى، مثلا يتم تحويل الدولار الأمريكي إلي اليورو، أو الجنيه الإسترليني إلي الين الياباني، وهكذا . وتتم عمليات التحويل تلك بين البائع والمشتري بسعر متفق عليه بينهما، ونظرا للحجم الضخم لهذه التحويلات يوميا، فإنها قد تؤدي أحيانا إلي تقلبات في أسعار عملات بعض الدول.


يقول بعض المتخصصين في سوق الفوركس Forex أنه السوق الذي يجعل الدول مثل الشركات، ويجعل عملاتها أسهم يشتريها الناس ويبيعونها.


ولتنظيم هذه العمليات الضخمة، هناك سوق لتداول الفوركس Forex تسمي ( OTC ) ولها أربع مقرات رئيسية حول العالم في لندن ونيويورك وطوكيو وسيدني.


ولقد كثرت القصص عن الكثير من الناس الذين حققوا أرباحا طائلة وثروات من وراء هذه التجارة، كما كثرت قصص مثلها عن ناس فقدوا كل الأموال التي دفعوا بها للاستثمار في سوق الفوركس Forex بل وزادت خسائرهم عن المبالغ الأصلية التي استثمروها.


إذن ما حكم الشرع في التداول في سوق الفوركس؟.


رأي دار الإفتاء المصرية:


سبق لدار الإفتاء المصرية أن أصدرت فتوى شهيرة قالت فيها أن تجارة سوق الفوركس Forex هي تجارة حرام شرعا، ولا تجوز وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وأضافت أنها قالت هذا الرأي بعدما قامت ببحوث مطولة عن سوق الفوركس Forex انتهت فيها للقول إلي أن هذه التجارة هي تجارة محرمة شرعا.


الفتوى صادرة عن الأستاذ الدكتور / شوقي علام، مفتي الديار المصرية بتاريخ 13 نوفمبر 2013، تحت رقم 13136، وأشار فيها مفتى الديار المصرية إلي أن رأيه بتحريمها هو نفس رأي مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.


ووصف الدكتور شوقي علام الفتوى في شأن الفوركس Forex بأنها من "الفتاوى العامة" التي تحتاج لمزيد من التحري والبحث لعموم البلوى بها، ثم قام بشرح طويل لطبيعة الفوركس، ونتائج لقاءات طويلة أجرتها دار الإفتاء المصرية مع متخصصين في هذه السوق، وأبحاث عديدة أجراها مختصين عنها، انتهت إلي تحريم هذه التجارة للأسباب التالية:


لوحة تبين العديد من عمليات التداول في الفوركس، pxhere.


1-الضرر الذي يقع علي المتعاملين بها.


2-الغرر الذي يجعل الفوركس Forex تشبه المقامرة المالية التي تؤدي في النهاية إلي الخراب المالي.


3-جهل المتعاملين بقواعد الفوركس المهنية.


4-عدم قدرة العملاء على متابعة العمليات المنفذة في الوقت الحقيقي لتنفيذها، مبينا أن ما يظهر أمامهم لا يكون في نفس وقت التنفيذ.


5-أن العميل ليس لديه طريقة يستطيع الاعتماد عليها في معرفة مهنية السماسرة الذين يتعامل معهم.


6-تهديد هذه المعاملة لاقتصاديات الدول.


7-عدم توفر الحماية القانونية للعميل، إذ أن معظم السماسرة تكون تراخيص شركاتهم في الخارج.


8-التغرير بالعملاء، إذ يدعي السمسار أنه المضارب، مع أنه ليس إلا وكيل لسمسار آخر.


رأي المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في الفوركس:


هذا، وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي فتوى في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من ١٠ : ١٤ / ٣ / ١٤٢٧ه‍‍، الموافق ٨ : ١٢ / ٤ / ٢٠٠٦، جاءت بعد تقديم أبحاث ونقاشات مستفيضة، ورأت هذه الفتوى أن التداول في الفوركس Forex يشتمل على الآتي:


أولا: الربا الصريح والمحرم بنص القرآن الكريم، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) البقرة/٢٧٨، ٢٧٩.


ثانيا: ما يحدث من اشتراط الوسيط أو السمسار على العميل أن تكون تجارته عن طريقه ، يؤدي إلى الجمع بين سلف ومعاوضة، وهو في معنى الجمع بين سلف وبيع، وهذا أمر منهي عنه شرعاً لقول الرسول صلى ﷲ عليه وسلم : ( لا يحل سلف وبيع . ) الحديث رواه أبو داود (٣ / ٣٨٤).


ثالثا: أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحرمة شرعاً ، ومن ذلك المتاجرة في السندات ، وهي من الربا المحرم، وكذلك المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز ، وبعض هذه الشركات يكون غرضها الأساسي محرم، أو بعض معاملاتها ربا، كما أن بيع وشراء العملات يتم غالباً دون قبض شرعي يجيز التصرف، وبخلاف ذلك فإن التجارة تحدث كذلك في عقود الخيار وعقود المستقبليات.


رابعا: اشتمال الفوركس على أضرار اقتصادية تمس الأطراف المتعاملة، وخصوصاً العميل (المستثمر) ، وعلى اقتصاد المجتمع بصفة عامة . لأنها تقوم على التوسع في الديون ، وعلى المجازفة ، وما تشتمل عليه غالباً من خداع وتضليل وشائعات ، واحتكار ونجش وتقلبات قوية وسريعة للأسعار ، بهدف الثراء السريع والحصول على مدخرات الآخرين بطرق غير مشروعة ، مما يجعلها من قبيل أكل المال بالباطل ، إضافة إلى تحويل الأموال في المجتمع من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة إلى هذه المجازفات غير المثمرة اقتصاديا ، وقد تؤدي إلى هزات اقتصادية عنيفة تلحق بالمجتمع خسائر وأضرار فادحة.


رأي دار الإفتاء الأردنية في الفوركس:


دار الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية نشرت عبر موقعها الإلكتروني بحثا طويلا اعده الدكتور وائل محمد عربيات من كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، والدكتور أحمد عبد ﷲ العون وهو باحث من دولة قطر.


انتهي هذا البحث الهام للغاية والذي رد على جميع الحجج التي قيلت على وجود ما يسمي بالفوركس الإسلامي، للقول بتحريم التداول في الفوركس Forex. وقد بني رأيه على ما يلي من أسباب:


*اشتمال الفوركس Forex على الربا، ويتمثل ذلك في الفوائد التي تأخذ على القرض الذي يمنح للمستثمر، كما توجد فوائد التبييت في حالة استمرار العقد أكثر من يوم. *عدم تحقق القبض الفعلي أو الحكمي. *أن الشركة تستطيع دون الرجوع للمستثمر أن تبيع الصفقة وتغلق المركز دون الرجوع إليه في حال بلغت الخسارة مبلغ القرض. *الأضرار الكبيرة التي تقع على الأفراد والمجتمعات من الفوركس.


رأي دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في حكومة دبي في الفوركس:


دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في حكومة دبي، تصدت أيضا لمسألة الحكم الشرعي في الاستثمار في الفوركس Forex، بعدما وردها سؤال عن حكم التداول فيها.


رأت دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في حكومة دبي إنه وإن كان الأصل في الشرع إباحة بيع وشراء العملات بغرض التجارة، إلا أن ما يجري حاليا في الأسواق العالمية وعن طريق الإنترنت يشتمل على العديد من المحاذير الشرعية.


يظهر على هذه الشاشة التراوح الكبير صعودا وهبوطا في تداول الفوركس.


وذكرت دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في حكومة دبي، عددا من المحاذير الشرعية التي قالت أن أنظمة الفوركس إن خلت من واحدة منها، لم تخلو من الأخرى، وهذه المحاذير هي:


وجود نظام البيع بالهامش والذي يسمي المارجن Margin أو الرافعة المالية Leverage، وهذه الأنظمة تعتبر ربا. عدم وجود تقابض في الفوركس، أي أن الشخص لا يقبض ماله في مجلس العقد. وجود فوائد على تبييت الصفقات SWAP، وهذه النقطة فيها شبهة ربا. الشركة الام تتلاعب بالأسعار بما يحقق مصالحها، ولا تراعي ضوابط الشريعة الإسلامية. الغرر والضرر موجود في الفوركس Forex.


رأي الشيخ عبد العزيز الفوزان في الفوركس:


الشيخ عبد العزيز الفوزان، وهو أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالى للقضاء بالمملكة العربية السعودية، افتي أن التداول في الفوركس لا يجوز.


الشيخ الفوزان قال أن الفوركس لا يوجد فيه ما يعرف باسم التقابض الحقيقي، أي أن الشخص لا يتسلم أمواله التي يكسبها كأي تاجر حقيقي وقتما يتاجر في سلعة ما.


مضيفا أن الفوركس Forex هو تجارة في النقود وتبادل لها، جائز بمقتضي إباحة النبي صلى ﷲ عليه وسلم التفاوت في سعر الأصناف المختلفة، ولكن في هذه الحالة يجب القبض في مجلس العقد، وهو ما لا يحدث في سوق الفوركس، إذ يبيع الشخص ويشتري في اليوم عدة مرات لا يقبض فيها، وهذا لا يجوز شرعا.


رأي الدكتور عبد ﷲ رشدي في الفوركس:


من بين العلماء الذين تعرضوا لمسألة حكم التداول في الفوركس Forex، الدكتور عبد ﷲ رشدي، وهو داعية مصري شهير.


الدكتور رشدي قال أنه من حيث الأصل فإن التجارة في العملات مباحة وحلال شرعا، بدليل قوله تعالى ( وأحل ﷲ البيع وحرم الربا).


مستطردا أنه ولكن عندما بدأت المضاربات عبر الإنترنت ظهرت مشكلة أن الناس لا يقبضون أموالهم في الحال، بل ظهر شيء يسمي في الفقه (التقابض الحكمي).. أي أن الشخص المضارب لا يستلم ماله بل يودع في حسابه في ذلك السوق، وهذه الصورة من القبض لا يزال بعض العلماء المعاصرين يمنعها ويعتبرها حراما، وذلك لأن النبي صلى ﷲ عليه وسلم قال أن القبض يتم في مجلس البيع.


الدكتور رشدي أضاف أننا لو سرنا مع الرأي الذي افتي بجواز (القبض الحكمي) ، فسيظهر مشكلة أخرى في طبيعة الفوركس Forex نفسها، لأن الشخص عندما يودع أمواله لتقوم شركة السمسرة بالتجارة بها، فإن شركة السمسرة تضيف عليها أموالا لحساب الشخص، أي أنها تعطيه (قرض).


العالم المصري قال أن هذا القرض ينتج عنه مشكلة أن كل قرض جر منفعة فهو ربا، وهذا ما يحدث في الفوركس Forex عبر ما يسمي (رسوم التبييت) والتي إن لم تنتهي في نفس اليوم، فسيتم دفع رسوم عليها، وهذا هو السبب الأول.


السبب الثاني أن الفوركس Forex يجمع بين ((سلف ومعاوضة))، وهذه مسألة نهي النبي صلى ﷲ عليه وسلم عنها، وذلك لأن السمسار يقوم بإقراض الشخص المال الذي يستخدمه في ((الرافعة المالية))، لكنه يشترط عليه أن يتاجر من خلاله هو، وهذه النقطة أيضا تعيدنا إلي أن كل قرض جر منفعة فهو ربا.


شخص يقوم بالتداول في الفوركس باستخدام هاتفه، pexels.


السبب الثالث الذي ذهب إليه الدكتور رشدي ووجدناه كذلك في أسباب فتوى دار الإفتاء المصرية بتحريم الفوركس، هو (الضرر والغرر) ، وذلك لأن شركات الاستثمار والبنوك تعلن بشكل صريح أنه لو ضاعت أموال الشخص الذي يستثمرها بالكامل، فإنها غير مسؤولة عن ذلك، فتلك الشركات تشارك المستثمر في مكسبه، لكن حين الخسارة فإنها تحملها الخسارة بمفرده.


أما الغرر، ومعناه (الشيء الذي خفيت عاقبته) أي أن الإنسان لا يعرف نتيجة هذا الفعل، وهذا موجود في الفوركس Forex، الذي يشبه عملية القمار، بسبب تحرك أسعار العملات صعودا وهبوطا في جزء من الثانية، ومن الصعب تماما التنبؤ بهذه الحركة في سعر العملة.


الدكتور عبد ﷲ رشدي قال أيضا أن هناك سبب رابع وهو رهن العقود، الذي تضمن به الشركات الوسيطة حقها من الشخص الذي يستثمر بأمواله في الفوركس Forex.


هذه الأسباب جميعها دعت الدكتور عبد ﷲ رشدي لتحريم التعامل في الفوركس، واستشهد بدوره بفتوى مجمع الفقه الإسلامي في جدة.


أما من يقول أن هناك نوع من الفوركس يسمي (الفوركس الإسلامي)، فيرد عليه الدكتور رشدي بأن المسألة ليست بالتسمية، بل يجب أن يكون خاليا من كل الأسباب والمحظورات المذكورة التي دعت لتحريم الفوركس. فإذا بقي منها ولو محرم واحد فيبقي الحكم بالتحريم.


في الختام:


في الختام، فمن كل الآراء الفقهية السابقة، يتضح لنا أن التداول في الفوركس Forex أمر محاط بالكثير من المحرمات الشرعية، بل وغارق فيها، لذا فإن من الواجب على المسلم أن يبتعد عنه تماما.


وبخلاف الحكم الشرعي، فهناك أيضا المنع القانوني الذي بدأت بعض الدول العربية في فرضه على تداول الفوركس، لذا فإن نصيحتنا ورأينا في المعرفة للدراسات أن تستثمروا أموالكم في شيء حقيقي، يفيد وينتج، ويبتعد بكم عن المال الحرام، الذي يردي صاحبه في الدنيا والآخرة.